تامسومانت انرز

مْلِيدْ إِثِنْزَارْ خْوَانْثْ ثْمِزَارْ

لْقِيسْثْ مْجْلَ إِلِّيسْ/ قصة من أتاهت بنتها-

لْقِيسْثْ مْجْلَ إِلِّيسْ/ قصة من أتاهت بنتها

الإثنين, أكتوبر 3, 2016

                                    لْقِيسْثْ مْجْلَ إِلِّيسْ/ قصة من أتاهت بنتها

هذه القصة أو على الأصح هذه الخرافة كثيرا ما سمعناها من المسنات والمسنين وقد كانت ضمن “الترسانة” المستخدمة للترفيه عن النفس وتشكيل المخيال الشخصي والجماعي للناشئة. ومع الأسف لم أعد أتذكر جيدا نهاية الرواية التي سمعتها من الوالدة رحمها الله، ولم أجد من يساعدني على ذلك على الرغم من طرقي أبواب عدد من الأشخاص. فالبعض ليست له أية فكرة عن القصة بالمرة. والبعض الآخر قدم نهاية مخالفة للتي نسيتها والتي كنت أعتقد أنها الوحيدة. ولكن ملا لا يرك كله لا يترك جله أو بعضه، فالاختلاف في النهاية لا ينقص من قيمة القصة ومن مغزاها، رغم أن كل كائن بشري عالم قائم بذاته وبالتالي فتصرف الأم في هذه القصة سلوك لا يمكن إسقاطه على كل الإناث على اختلاف الأزمنة والأمكنة والمجتمعات.
وهذه هي القصة مع بعض التصرف
يحكى أن أُمرأة كانت أجمل نساء بلدتها على الإطلاق. وقد رزقها الله عز وجل بنتا أجمل منها. فكلما كبرت البنت زاد بهاؤها لدرجة جعلت أمها تغار منها وخاصة حينما يمتدح جمالها بحضورها. وهكذا تزداد الغيرة مع تكاثر وتنوع المعجبين بالبنت.
وكانت في أول الأمر تحاول إخفاء ذلك الشعور ومقاومته قدر الإمكان إلى أن وصل السيل الزبى بمرور تاجر متجول ، ما كان يعرف “بالعطار” بين الدواوير لبيع تجارته المحمولة على ظهر دابته. وقد كان ذلك ” العطار” من فئة ينظر إليها نظرة الدونية. فما أن رأى هو الآخرالأم وبنتها حتى انبهر بجمال البنت فلم يتمالك نفسه ونطق متعجبا:” ما أجملك سيدتي ولكن ابنتك أجمل وأبهى منك”.
استشاطت الأم غضبا، ولكن تمالكت نفسها وأسرت كل ذلك في نفسها مع العزم على الانتقام من “غريمتها ومنافستها” فلذة كبدها . وبعد تفكير عميق اهتدت إلى خطة جهنمية للتخلص منها إلى الأبد بحسب زعم الخرافة. كيف لا وقد نكدت عيشها.
وتقتضي الخطة أن ترسخ في ذهن البنت فكرة إنجازسجاد “زربية/قطيفة” ضخمة لدرجة يمكن أن تغطي العالم كله. انطلت الفكرة، بل الحيلة على البنت فانخرطت مع أمها في إعداد العدة لإنجاز المشروع المزعوم وكلها حيوية وبراءة . فبدأتا في تجميع كل ما يلزم لذلك وخاصة الصوف. ثم شرعتا في إنجاز المراحل الضرورية لتحويل الصوف إلى السدى واللحمة الضروريين لنسج الزربية المنتظرة. وما أن انتهتا من كل ذلك وحصلتا على لفافة خيوط عظيمة حتى انتهزت الأم غياب أب البنت، أي زوجها، لتدعو ابنتها للخروج معها والبحث عن مكان مناسب لإنجاز المطلوب. فطال المسار وقطعت المسافات حتى تأكدت الأم أن ابنتها لن تستطيع العودة لوحدها إلى المنزل، وأن كل فراق بينهما سيحكم لا محالة عليها بالضياع.
وقع اختيار الأم القاسية على مرتفع يعلو منحدرا حادا وطويلا لتنفيذ خطتها. فأوهمت البنت بأنه المكان المناسب لإنجاز المطلوب. فتظاهرت بالشروع في إنجاز المتطلبات الضرورية لذلك. ثم ما لبثت أن أفلتت اللفافة عن قصد من يديها دافعة آياها نحو المنحدر لتتدحرج بسرعة كبيرة نحو الأسفل. فصاحت الأم مولولة مستغيثة بابنتها لاستعادتها. انطلت الحيلة على البنت البريئة المسكينة.

تعقبت البنت اللفافة محاولة الامساك بها والعودة لإتمام ما شرعتا فيه. إلا أن الدرب كان طويلا والتدحرج كان قويا وسريعا. فلم تتمكن من اللحاق بها إلا حينما استقرت في أسفل المنحدر بعدما مر وقت طويل وجهد جهيد. وما أن ظفرت البنت بالمطلوب حتى قفلت راجعة نحو المنطلق حيث كانت تعتقد أن الأم لا زالت تنتظرها. ولكن هيهات هيهات، ما أن وصلت إلى المكان، وهي منهكة منهارة القوى، حتى اصطدت بالواقع المر. الأم لم يعد لها وجود !!!
احتارت البنت من الأمر دون أن تدري ما حل بأمها وكأن لسان حالها يقول: أتكون قد تبعتني فاختلفنا في الطريق ؟ أم هي ضحية لحيوان مفترس؟ أو؟ أو؟ أو؟ أتكون أمي قد تركتني وذهبت لحال سبيلها؟ لا لا لا. إلا هذا الاحتمال فهو ليس معقولا !!! ألست وحيدتها!!! أيعقل أن تتخلى عني بكل سهولة؟ مرت الصدمة ثم أجهشت بالبكاء فبكت ما شاء الله لها أن تبكي.
وبعدما أدركت أن كل ذلك لن يغير من الأمرشيئا. تمالكت وكفكفت دمعها ثم بدأت تفكر في كيفية الخروج من الورطة التي وقعت فيها. وما هي أفضل الوسائل المتاحة لمواجهة كل الاحتمالات؟ ثم سلمت أمرها إلى الله متوكلة عليه متسلحة بالصبر ورباطة الجأش مع الالتزام بالحذر واليقظة، جاعلة نصب عينيها كأول هدف آني: العثور على مأوى تقضي فيه ليلتها التي أوشكت أن تحل.
فانطلقت بحذر شديد تسابق ما تبقى من اليوم باحثة عن مكان مناسب يقيها تقلبات الجو ويحميها من الوحوش والآفات حتى يدركها اليوم الموالي عله يأتي بالفرج. لم يمر وقت طويل حتى عثرت على جرف كبير تتواجد فيها عدة مغارات متفاوتة الكبر والغرابة. فقررت أن تحتمي بأصغرها وأمنعها . وما أن استقرت في تلك المغارة ومضت هنيهات حتى هزت المكان أصوات كأنها هديرالرعد أوهبوب العواصف. ثم ما لبثت أن ترآى لها في الأفق مجموعة من المخلوقات الغريبة التي لا تعرف عنها أي شيء. وكلما زادت تلك المخلوقات اقترابا زاد هديرها وتعالت أصواتها وبالتالي زاد رعب البنت وارتفعت دقات قلبها وتسارعت.
وما هي إلا لحظات حتى اقتربت تلك المخلوقات من مكان تواجدها قاصدة أحد الكهوف الضخمة المجاورة . دخلت المخلوقات إلى مقصدها وخيم السكون على المكان. حمدت البنت الله أن لم ينكشف أمرها. فبدأت تفكر في أمر هذه المخلوقات وتدور في خلدها أسئلة كثيرة في شأنها. أيعقل أن تكون من تلك الحيوانات التي لا وجود لها إلا في سجل الخرافات الأحاجي والقصص؟ فبالرغم من الخوف الذي كان يسيطر عليها والأسئلة المحيرة التي تحاصرها، فقد استطاع النعاس، بمساعدة التعب والإرهاق، أن يظفر بها فاستسلمت له.
غرقت المسكينة في سبات عميق لدرجة أنها لم تستيقظ إلا على وقع هدير أصوات المخلوقات المذكورة وهي تغادر كهفها نحو مكان مجهول. راقبت خروجهم وابتعادهم بحذر شديد محاولة التعرف على سلوكهم وتصرفاتهم. فلما تجاوزت تلك المخلوقات الأفق وغابت عن أنظارها نزلت من مكانها، رغم خوفها الشديد، في محاولة استكشافية لمسكن ” الغرباء” على الرغم من أنها هي الغريبة الحقيقية، ومحاولة فك لغزهم المحير.
وبالفعل، فقد تمكنت من التسلل إلى الكهف المقصود ويدها على قلبها. وكم كانت مفاجئتها عظيمة وهي تكتشف وجود أواني عبارة عن ” قِصَعٍ” كبيرة وعديدة مليئة بما لذ وطاب من الأطعمة المتنوعة. وعلى الرغم من شدة جوعها، فقد حرصت ألا تتناول من كل آنية إلا القليل مما لا يثير انتباه المخلوقات العجيبة. فما أن نالت ما يكفيها من الطعام، حتى قفلت مسرعة نحو مكانها تترقب المجهول وفي خلدها ألف سؤال وسؤال.
طال الانتظار وطال الترقب !!! وخيل لها أن الزمان قد توقف لولا حركة الشمس في السماء وانتقال ظل الأشياء في الأرض من مكان إلى آخر. وما أن آلت الشمس إلى المغيب، وحان وقت الرواح، حتى ظهر” الموكب” الغريب بنفس المظاهر والمكونات والآثار التي رأته عليه مساء اليوم السابق.مرت “عاصفة” قدوم موكب المخلوقات المجاورة . وخيم السكون على المكان مرة أخرى وهدأ نسبيا روع المسكينة وبدأت تتأقلم شيئا فشيئا مع موطنها الجديد. أما المخلوقات، فقد بدأت الشكوك تنتابها من أن مسكنها لم يعد آمنا كما كان عليه الأمر من قبل. فقد اشتمت رائحة غير رائحتها، ولاحظت آثار نقصان الأطعمة التي تركتها. ولكن لم تتأكد بعد من حقيقة ما جرى.
ولكي تستيقن المخلوقات الأمر وتستبين اليقين من الشك، قررت أن تبقي على عادتها في إعداد الأطعمة وأن تنتظر لترى ماذا سيحدث في اليوم الموالي.حل اليوم الموعود، وغادرت المخلوقات مكانها كالعادة، ففعلت البنت كما فعلت من قبل ثم انصرفت إلى موضعها المعهود. ومر اليوم وعادت الوحوش إلى وكرها. ولاحظوا ما لاحظوه في اليوم السابق. فتأكد لهم أن مخلوقا ما ينتهك حرمة مسكنهم. فقرروا أن ينتدبوا أحدا منهم للحراسة من داخل المغارة على ألا يتصرف بما يثير الشك والريبة لدى ” المقتحم” المجهول فيبتعد عن المكان. غادرت الوحوش وكرها كالعادة كأن شيئا لم يكن إلا واحدا منهم بقي كما تم الاتفاق ليتولى الحراسة.
لم يمر من الوقت إلا القليل، حتى اقتحمت البنت المكان باحثة عن الطعام كعادتها فيما سبق. لم يبادر ” الحارس الوحش” بالظهور والقبض على البنت من أول وهلة. فقد انبهربجمالها الأخاذ ، فظل يراقبها ويلاحظ تحركاتها وتصرفاتها إلى النهاية. وما أن همت بالانصراف، حتى أحدث ما أثار انتباهها، مبادرا بطمأنتها وبالتخفيف من روعها ومن هول المفاجأة عليها. تمالك البنت الخوف الشديد. فكادت أن يغمى عليها لولا غياب أي تصرف عدواني من “المتربص”. بل على العكس من ذلك، فقد ظهرت منه بوادر تودد وتقرب. فما أن مرت لحظات المفاجئة من لقاء الوحش حتى تأكدت البنت أنها لا محالة أسيرة ولا مجال من الافلات. ومع كل ذلك، وبمرور الوقت دون حدوث المحظور، فقد أيقنت أن حياتها، ولو لحين، ليست في خطر. وهكذا بدت تفكر كيف يجب أن تتصرف تجاه الورطة التي وقعت فيها. وبعد ما تمكنت من التواصل مع الوحش وحاولت الاستعطاف والتذلل ولم يأتي ذلك بأية نتيجة، بدى لها أن تلعب ورقة الدلال والافتتان. وبالفعل، فقد نجحت في ذلك ونالت إعجاب ” الوحش” الذي بدأ يرى فيها زوجة المستقبل.
وقد بلغ إعجاب الوحش بالفتاة حدا جعله يطلعها على بعض الأسرار الخاصة بمجموعته. ومن جملة ما عرفته منه أنهم يعيشون في مجموعة تتزعمها الأم وأنها الآمرة والناهية في كل صغيرة وكبيرة. ومن أهم ما باح به فيما يخص أمه أن ثدييها ضخمان لدرجة لا يتسعهما صدرها فتضطر لسحبهما إلى الوراء فيتدليا من ظهرها بدلا من مقدمتها ، وأنها تعامل كل من رضعهما كما لو كان ابنها أو بنتها فلا يمسهما منها ولا من غيرها أي مكروه أبدا. نال كل واحد من البنت والوحش ثقة الآخر. فخططا خطة لتقديم البنت إلى المجموعة بطريقة لا تشكل خطورة على حياتها. فقررا أن تختبئ البنت بجانب الباب الذي تلج منه لمجموعة وفي مقدمتهم زعيمتهم المذكورة سالفا.
حان وقت الرجوع المنتظر، فتسمرت البنت بجانب الباب بكيفية تُباغِت ولا تُباغت. فلم تكد “الأم الوحش” تتجاوز العتبة حتى انقضت البنت على ثدييها وصارت تمصهما مصا.حاولت “الأم الوحش” صدها ولكن البنت قد تعلقت بثدييها بقوة مستعطفة متذللة طالبة منها الصفح والأمان. ردت ” الأم الوحش” بقولها:” لولا أن سبقت تحيتك تحيتي، لافترستك وافترست الأرض التي امتطيتها إلى هنا. ولكن، منذ الآن فأنت بمثابة ابنتي، لك ما لنا وعليك ما علينا. فمرحبا بك بيننا”.
تنفست البنت الصعداء وخف روعها واستسلمت لمصيرها.مرت الأيام و صارت تتأقلم شيئا فشيئا مع العائلة الجديدة. ومع مرور الوقت بر هنت على أنها أهلا للثقة مما جعلها تتبوأ مكانة المستأمن على المغارة وترفع عنها الحراسة لتتولى لوحدها دون رقيب ولا حسيب تحضير الطعام والقيام بأعمال النظافة وترتيب المغارة. وبذلك تقوت ثقة تلك العائلة بها، وزاد تعلق من أسرها بها على أمل الزواج بها. إلا أن الخرافة، على ما أتذكر، لم تحكي أي شيء عن ذلك الزواج.
ومهما يكن، فقد استغلت البنت تعلق الراغب في الزواج منها بها لمعرفة المزيد من أسرار المغارة. وبالفعل، فقد مكنها ذلك من معرفة محتويات كل مكونات المغارة ما عدا غرفة واحدة استشفت من بعض العلامات والآثار المحيطة بها ومن الروائح المنبعثة منها أنها غير عادية. وقد حاولت غير ما مرة معرفة ما بداخلها من زوجها المفترض، إلا أنه كان دائما يتهرب ويراوغ بدعوى أن الوقت لم يحن بعد وينصحها بعدم الاقتراب منها. ولكن وكما يقول المثل” كل ممنوع مرغوب”، فقد عملت كل ما في وسعها لاستكشاف ما بتلك الغرفة. فكانت تتحين الفرص إلى أن ظفرت ذات يوم بمفتاح الغرفة، واستغلت تواجدها لوحدها لتفتح الغرفة التي لا زالت لغزا لم تكتشفه بعد. ولكن ما أن فتحتها حتى أغمي عليها !!!فقد هالها هول ما وجدت.

فالغرفة بمثابة مستودع ومقبرة للأموات . اختلطت فيها جثث وبقايا الطرائد الآدمية والحيوانية وهياكلها العظمية. ولما استفاقت سارعت إلى مغادرة المكان لكن أنين طريدة آدمية حديثة العهد بالمكان استوقفتها ونالت من اهتمامها. اقتربت منها ويا لدهشتها حينما استبانت ملامحها فوجدتها لابن عمها. حزنت حزنا شديدا وقالت في نفسها : “حتما أنا السبب فيما جرى له. إنه بدون شك خرج للبحث عني فنالت منه هذه الوحوش الضارية. وأسرتها في نفسها عازمة أن تعمل كل ما في وسعها لمحاولة إنقاذ حياته التي غامر بها من أجلها.
عزلت البنت جسد ابن عمها عن باقي الجثث والبقايا المتواجدة بالمكان ووضعته في مكان آمن وصارت تعالج جروحه وتغذيه إلى أن استعاد وعيه وتعرف عليها هو الآخر وعلى قصتها.فحمدا الله الذي جمع بينهما. و بقي الأمر سرا بينها لمدة معينة. فلما أحست البنت أن ابن عمها قد استرجع بعضا من قدراته الجسمية، اختارت أجود ما هو موجود من الجياد في حظيرة تلك المخلوقات و سارت تحثه على ركوبه وتساعده على ذلك. وكانت تطالبه على الخصوص وبإلحاح شديد بالعمل كل ما في الوسع لاكتساب المهارات الازمة للفر والمراوغة.
استمر الحال على ما عليه مدة دون أن ينكشف أمرهما. ولما تيقنا أنه قد حان وقت الانعتاق والفرار من، جمعا من الزاد والعتاد ما خف وزنه وبانت فائدته. و من العتاد المختار لتلك المهمة المصيرية ، بالإضافة إلى الفرس، “الروادع” التي ظنا أنها ستمكنهما من الدفاع عن نفسيهما في مواجهة تلك الوحوش التي سوف تقتفي أثرهما لا محالة ، وتجتهد في طلبهما حالما تكتشف خطتهما. وتتكون تلك ” الروادع” على الخصوص من صُرَر تضم، عواصف ورياحا، وأمطارا وثلوجا وبردا، ومشطا وإبرا حديدية ، وتوابل حارة، وأملاحا كاوية.
ولما اكتمل كل شيء، اختيرت الليلة المناسبة لتنفيذ المهمة. وخلال تلك الليلة ترقبا دخول الوحوش في نومهم العميق المعتاد كما بينت التجربة ، فانطلقا مسرعين وبأقصى ما يمكن من الحذر لربح كل ما يمكن ربحه من الوقت والابتعاد ما أمكن لهم ذلك من المكان قبل أن ينكشف أمرهما وتفشل خطتهما. فصارا يطويان المسافات دون أن يهتما كثيرا بالاتجاه الذي يسيران فيه. فالأهم عندهم ربح الوقت والابتعاد ما أمكن من ذلك المكان اللعين . فكل الطرق المحققة لهدفهما قابلة للسلوك سيما إذا كانت بلا عوائق وحواجز.
ولكن هيهات هيهات !!!لازال الخطر محدقا . فما أن استيقظت الوحوش واكتشفت ” المؤامرة” حتى جن جنونهم وخاصة منهم ذلك الذي كان يمني النفس بالزواج من البنت.وما هي إلا لحظات حتى تم تحديد اتجاه ” الهاربين” لتبدأ الملاحقة والمطاردة. فلم يمض وقت طويل حتى ترآى الطرفان فتحتد المطاردة .
استشر الإبن والبنت خطورة الموقف، فلم يجدا بدا من اللجوء إلى “الأسلحة” التي حملوها معهم للدفاع عن نفسيهما. وكانت الحكمة تقتضي منهما الاقتصاد وحسن الاستعمال لأن عكس ذلك يعني الحكم عليهما بالهلاك. فلم تقم البنت، وهي التي تتولى مهمة الرماية والتصويب، بينما الولد منشغل بالقيادة والمناورة لتجنب العراقيل وربح المسافات، باستعمال ” أسلحتها” دفعة واحدة، وإنما كانت تجتهد في اختار الظرف والوقت المناسبين لاستعمال كل “سلاح” . فلما اقتربت الوحوش منهما لأول مرة، أطلقت عليهم العواصف والرياح لتعرقل تقدمهم ولتبعدهم ما أمكن. ولما نفذت “ذخيرة العواصف والرياح”، لجأت إلى “ذخيرة الأمطار والبرد والثلوج”، ثم إلى ما يليها.
و مع ذلك، وعلى الرغم من قوة الذخائر المستعملة، فقد تمكنت الوحوش من الصمود، بل ومن الاقتراب مرة أخرى من “الهاربين”. فلما تيقن المُطارَدان أن حياتهما في خطر وأن فشل خطتهما أصبح متيقنا، سيما بعدما تثاقلت خطوات فرسهما جراء التعب الذي لحقه من طول المسافة المقطوعة وشدة المطاردة، لم تجد البنت بدا من استعمال “ذخيرة المشط والإبر الحديدية”. فتأدت الوحوش من ذلك بسبب الجروح التي أحدثتها والدماء التي تسيل من مختلف أجزاء من أجسامها وخاصة من أرجلها وصدورها ووجوهها. ولكن ومع ذلك لا زالت تلك الوحوش مصرة على المطاردة. فما كان من ” الرامية” إلا أن أردفت إطلاق المشط والإبر الحديدية بما في جعبتها من بهارات وأملاح حارة وكاوية. فلم تعد تتحمل الوحوش الوضع بعدما اختلطت جروحها بالتوابل الحارة والأملاح الكاوية، فزادت الدماء سيلانا والآلام وجعا، والعضلات والأعصاب تشنجا. فلم تجد بدا من التراجع والعودة القهقرى إلى الوراء، فبدأت الشقة تتسع بينها وبين ” الهاربين” وتراجعت وتيرة سرعتهم إلى أن انهزمت تماما.
تابعت البنت وابن عمها السير في أمان رغم أن العياء قد بلغ منهما، وخاصة من فرسهما، مبلغا لا يطاق، حامدين الواحد الأحد الفرد الصمد الذي نجاهم مما أصابهم و جمع بينهما في مكان وفي ظرف لم يخطرا على بال أي واحد منهما. ولما تيقنا أن الخطر الذي كان يطاردهما قد زال، وأو شك النهار أن ينصرف، قررا أن يبحثا عن مأوى لقضاء ليلتهما عل اليوم الموالي يأتيهم بالفرج المنتظر.
وبينما هم كذلك، إذ عثرا على خيمة منصوبة بالقرب من مكان تواجدهما، فقصداها طالبين القرى والحماية. فما أن اقتربا منها وحاصرتهما الكلاب من كل جهة حتى برز منها شخص تبدو عليه علامات الوقار وتعلو وجهه البشاشة وتسبق فمه الابتسامة، وهو يزجرالكلاب مرحبا:”حللتما أهلا ونزلتما سهلا”. بعد تبادل التحية، اصطحبت زوجة المضيف الضيفين المتعبين إلى داخل الخيمة، وهما يسيران بخطى مثقلة . في حين تولى المضيف، كما تقتضي العادة، الاعتناء بالفرس بالربط والتغذية.
لم يكد الضيفان يستقران داخل الخيمة حتى أغار عليهما النعاس فنال منهما دون عناء. ولم يحررهما منه إلا صوت المضيف وهو يناديهما” مرحبا، العشاء جاهز. استيقظا لتنالا منه ما يذهب جوعكما ويقوي بدنيكما المتعبين”.
أخذت البنت، وهي التي صقلت المشاكل والمتاعب تجربتها، تتناول الطعام بكيفية غير معهودة. فتارة تضع اللقمة في فمهما وأخرى، و في غفلة من الضيف وزوجته، في حضنها. أما ابن عمها، فإن الجوع قد أعمى بصره وبصيرته فلم يبالي بما تفعله رفيقته. ولما رفع الإناء وانتهى الطعام، استسلما الضيفان من جديد للنعاس ودخلا في سبات عميق. وفي الصباح، وبعدما تم الاستعداد للرحيل وحان وقت الشكر والوداع، ظهر الضيف على حقيقته وتحول من شخص آدمي إلى طائر ضخم ذي منقار حاد ومخالب قوية، مطالبا بإعادة ما ” تكرم به” من طعام أو سيصبح الضيفان أسيرين.
تحول الصباح وإشراقته في عيني الضيفين إلى عتمة. وقد كانت المفاجأة، خاصة بالنسبة للإبن، قوية. أما البنت، فقد تعلمت أن تتوقع أن يحدث لهما أي شيء وفي أية لحظة. كما أن الاحتياط الذي اتخذته بادخار جزء مما تناولته من الطعام، قد ساعدها على ذلك.فسارت تخرج الطعام من حضنها وهي تعد وتقول:” هذه عني وهذه عن إبن عمي” حتى نفذ ما في حَجْرها ولم يستوفي الطائر ما يطالب به. وبما أن آخر ما قالت “وهذه عني”، فقد قال لها ” الطائر”: ” إذن أنت حرة وابن عمك أسير”.
نزل “الحكم” قاسيا عليهما مثل الصاعقة. ولكن ما عساهما أن يفعلا فقد شاءت الأقدار أن يقعا مرة أخرى في ورطة الله أعلم بما ستنتهي.
حاولا معالجة الوضع بكل الوسائل. لكن دون جدوى. ف” المضيف العجيب” أصر على أسر ” الولد” وإخلاء سبيل ” البنت”، ولا يقبل أي حل آخر. فلما آيسا من المحاولات، وتيقنا أن الطائر لن يتراجع عما قرره، طلب الإبن من البنت الرحيل والبحث عن منزل أبيه وإخبار بما حل به عله يجد حلا لما وقع، موجها لها إلى أقرب السبل المؤدية لذلك وأكثرها أمنا.
انطلقت البنت وحيدة في رحلتها الجديدة. فلما بلغت إلى مضارب القوم الذي يعيش بينها عمها استفسرت عن منزله فقصدته. ولما وصلت مقصدها وقصت قصتها لم تلق الترحاب الذي كانت تأمله. بل على العكس من ذلك، فقد أستقبلت أسوأ استقبال، وأطعمت مع الكلاب، وأحشرت مع الدواب.
وفي اليوم الموالي، من وصولها إلى مسكن عمها، مر الطائر المشئوم في السماء من فوقها وهو يحمل ابن عمها. رمقها هذا الأخير فسألها” ما ذا فعل بك أبي وأمي يا ابنة العم؟”فأجابته ” لقد أطعموني طعام الكلاب وأرغموني على النزول والمبيت مع الدواب”. رد عليها” ما أقبح ما صدر من أبي وأمي !!! هداهما الله” وتوارى به الطائر عن الأنظار.
سمع الأبوان صوت ابنيهما فعرفاه وتيقنا صدق ما روته لهما “الضيفة” التي حلت بهما ولم يكرما وفادتها. فسارعا إلى مكان تواجدها معتذرين ومحاولين إصلاح ما يمكن إصلاحه. وبالفعل، فقد أعذرتهما البنت وتجاوزت عن كل ما صدر منهما من أخطاء وتصرفات مسيئة. فكفرا عن كل ذلك بإقامة حفل يليق بكرامتها، وأنزلاها المنزلة التي ترضاها. ولما مر الطائر مجددا في اليوم الموالي وهو محملا بالأسير، استفسر هذا الأخير عن حال ابنة عمه. فأخبرته أنها قد تم تكريمها والفرح بها وأنها في أحسن حال ولا ينقصها إلا تخليصه من الأسر وجمع الشمل بينهما”. فرح الأسير ونادى بأعلى صوته” ما أحسن ما فعل أبي وأمي !!! بارك الله فيهما “.
أخذ الكل يفكر في كيفية استرجاع الإبن وتخليصه من الأسر. فاهتدى الجميع إلى استشارة خبير في بلدة مجاورة حنكته التجارب وعلمته السنون والمحن. فلما أتوه وأخبروه بما جرى وما هو المطلوب منه، نصحهم بالصواب ونطق بأنجع جواب على ما طرحوه عليه من استجواب. فقال لهم” عليكم بذبح بقرة وتقديمها قربانا للطائر المعلوم. فلما ينتهي من افتراسها، تفعلون معه ما فعله مع ابنكم وبنت عمه وتشترطوا عليه ما اشترطه عليهما وابتدعه في مجال الضيافة: أعد ما أكلت أو أعد لنا ابننا”. ففعلوا ما أشار به الخبير، فانفرجت الكربة وانكشفت الغمة وأزيلت الحواجز والعوائق بين الإبن والإبنة لإتمام الزواج وإقامة عرس لم تشهد البلدة مثله لا من قبل ولا من بعد.
وبذلك تنتهي الخرافة، فنقول كما كان يقال عند انتهاء كل قصة وخرافة أمازيغية بحسب المتعارف عليه في منطقتنا ” ثْقْضَ ثْحَجِيتْ أُرْقْضِينْ يِرْدَنْ تَمْزِينْ أُلَ نْشْثْ دَمْسَّاسْ” بمعنى ” انقضت القصة أو الخرافة ولم ينقض القمح والشعير (تنقض حبوب… القمح والشعير) ولم نتناول ما نأكل بدون ملح”.
لحسن بن محمد انرز

لْقِسَاثْ/ثِحُجَ ( القصص)

إسوة بــ" ثِحُجَ " الألغاز، تعد " ثِحُجَ لْقِيسَات" ، أي القصص البعد الآخر أو الشكل الآخر للتعبير عن مكنونان الوجدان الأمازيغي ووسيلة ممتازة للترفيه عن النفس والتسلية. وعادة ما يتم ذلك في المسامرات ولاسيما في الليالي الشتوية الطويلة بجانب المواقد. ومن العادات المعتبرة في مجال لقيسات و"ثحج"، بصفة عامة، الانشغال بها ليلا فقط. أما نهارا فقد كان سائدا أن الانشغال بسردها يورث " مرض القُراع" للذرية. وكما هو حال عدة معتقدات شعبية، فلا يعرف المرتكز الحقيقي لهذه المقولة. والظاهر، أن الحكمة في الترويج لهذه المقولة أو " المعتقد"، هو تفادي الإلهاء وإشغال الناس بالحكايات التي تصرفهم عن المتطلبات المعيشية، وخاصة كسب القوت اليومي.

لحسن بن محمد انرز

ابحث في الموقع

النشرة البريدية